الأمم المتحدة تنتصر لفلسطين وعاصمتها القدس
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم ينفع بلادها
كعبها العالي ولا كلماتها الحادة، ولا لسانها السليط وألفاظها النابية، ولا
تهديداتها المنافية للأدب والمخالفة لأصول الدبلوماسية، ولا خطاباتها العنجهية في
مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولا اطلالتها المستفزة ونظراتها العدائية، ولن ينفع
الكيان الصهيوني زيارتها للقدس وساحة البراق، وولاءها المطلق له ودفاعها المستميت
عنه، إذ لن تتحقق أمنية نيكي هايلي التي دستها بين جدران الحائط، ولا تلك التي
تمتمت بها ورددتها، والأماني التي أسرتها، ولن تكون القدس عاصمةً للكيان الصهيوني،
وإن وعدهم بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، الذي ظن أن كلامه
منزلاً، وأن حكمه مبرماً، وأن قراره لا يرد، وأنه سيد الكون الأوحد وحاكم العالم
الأقوى، وأن كلمته هي الأولى والأخيرة، وهي التي تتمتع بالحصانة والسيادة فلا راد
لها، ولا معارض لمفاعيلها.
ولن تنفعها
ورئيسها الذي عينها في منصبها وأبدى إعجابه بخطاباتها، وأيدها في تصريحاتها وكررها
نفسها بلسانه، أموالُ بلادهما وخزائن دولتهما، تلك التي يستخدمونها في استرقاق
الدول واستعباد الحكومات والسيطرة على الشعوب، والهيمنة على المؤسسات واحتكار
الشركات وإدارة الأعمال والاقتصاد والتجارات الخارجية، التي دمرت اقتصاد البلدان
وأضرت بهياكلها الاقتصادية، وغيرت أنماط الحياة وسلوك المواطنين، لهذا فلن ترضخ
لأموالهم الدولُ، ولن تصغي السمع لهم الشعوب والحكومات، حتى تلك الدول التي تتلقى
منها الهبات والمساعدات، فإنها لم تقبل أن تكون عبداً عندها، ولا ترضى أن تكون
عندها أجيرة بما تقدمه إليها من مساعدات أو بما تيسره لها من ديونٍ وقروضٍ وبرامج
تنموية.
إنه يومٌ
مشهود تلقت فيه الإدارة الأمريكية ورئيسها صفعةً قاسيةً، ولطمةً على الوجهين مهينة،
ودرساً بليغاً لها من أغلب دول العالم، الفقيرة والغنية، الضعيفة والقوية،
والبعيدة والقريبة، والمعادية والصديقة، والمسيحية والمسلمة، بأن سياستها مرفوضة
وغير مقبولة، وأن دول العالم لا تقبل بما تمليه عليهم وتريده منهم، ولا ترضى أن
تكون أداةً طيعة بيديها، تصوت تبعاً لتعليماتها وتؤيد مقترحات قراراتها، وتصمت عن
تجاوزاتها وتسكت عن مخالفاتها، بل تريد من الإدارة الأمريكية أن تحترمهم وتقدرهم،
وأن تأخذ برأيهم وتسمع لهم، فهم ليسوا قطيعاً يساق بالعصا وتحركه غريزة حب الطعام،
بل هم دولٌ وشعوبٌ عريقة، لها كرامتها وتحرص على سيادتها، ولا تقبل أن تخضع
للهيمنة أو أن تستعمر بالقوة.
لم تهزم
الإدارة الأمريكية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وحسب، بل سبقتها هزيمةٌ مدويةٌ
أخرى في مجلس الأمن، لم يقلل من أثرها سقوط القرار بموجب قوانين مجلس الأمن
المعمول بها، فقد صوتت معه ضد السياسة الأمريكية دولٌ حليفةٌ لها وتدور تاريخياً
في فللكها ومنها بريطانيا، التي تؤيد الإدارة الأمريكية بصورة دائمة وتنسق معها،
وتشترك معها في الكثير من السياسات والمشاريع والحملات العسكرية والتحالفات
الدولية، ومع ذلك فقد أيدت بريطانيا ومعها ثلاث عشرة دولة أخرى القرار الذي يرفض
أي تغيير أحادي في مدينة القدس، ويبطل مفاعيل القرار الأمريكي بالاعتراف بها
عاصمةً للكيان الصهيوني.
لكن الإدارة
الأمريكية التي نجحت في إسقاط القرار في مجلس الأمن، واستعرضت قوتها فيها وتباهت
بالفيتو الذي تتمتع به، واطمأنت إلى أن القرار لن يمر، عجزت عن حماية سياستها في
الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما جردت من القوة والامتيازات، وأصبحت دولةً
عادية كبقية دول العالم، ليس لها إلا صوتها الذي به تتساوى به مع جميع دول العالم
الصغيرة والكبيرة، والضعيفة والقوية، ورغم توقعاتها أن تهديداتها ستغير النتيجة وستقلب
التوقعات، إلا أنها الواقع عزلها، وأعداد المصوتين مع القرار فضحها، وأسماء الدول
الصغيرة النكرة النائية التي لا يعرفها أحد قزَّمها، وأظهر عجزها وأبان انحيازها
العنصري، ما يعني أن الزمن الأمريكي في انحسار، وأن التفرد واستعراض القوة وادعاء
العظمة لن يفيدها كثيراً في بسط نفوذها وتعميم سياستها.
ستبقى الإدارة الأمريكية على موقفها السلبي، ولن تتراجع عن قرارها الخاطئ،
خاصةً في ظل رئيسها الأهوج الغريب التصرفات، المسكون بالقوة والعظمة، والمتصرف في
البيت الأبيض كرجل أعمالٍ يصف نفسه دائماً بأنه عنيد وقوي، وأنه يكره الفشل ولا
يحب الخسارة، ولهذا فقد نسمع منه بعد هذه النتيجة المدوية المؤيدة لفلسطين
والفاضحة للسياسة الأمريكية، قراراتٍ جديدةٍ قد تكون أكثر سوءاً وأشد قبحاً وأوسع
انتشاراً، في محاولةٍ منه للانتقام من الفلسطينيين وممن أيدهم ووقف إلى جانبهم،
وصوت لصالحهم ضد قراره، ولعله سيلجأ إلى خطواتٍ انتقامية عنصرية، ومنها تجميد
التزامات الولايات المتحدة الأمريكية المالية تجاه الأمم المتحدة ومؤسساتها، وكذلك
وقف المساعدات والمعونات لبعض الدول التي تتلقى دعماً مالياً مباشراً منها.
بعد قرار الأمم المتحدة وحالة العزلة النسبية التي دخلت فيها الولايات
المتحدة الأمريكية، لن يكون من السهل على الإدارة الأمريكية أن تعود لرعاية
المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وأن تكون طرفاً وسيطاً نزيهاً حكماً عدلاً بين
الطرفين، ولن يصدق أحدٌ ما قالته نيكي هايلي على منصة الأمم المتحدة، من أن هذا القرار
الذي اتخذه رئيسها إنما هو لخدمة العملية السلمية، والدفع بها إلى الأمام، وهذا
القرار لا ينفي حل الدولتين، ولا يقف أمام مقترحات الطرفين خلال عملية التفاوض
المباشرة.
دوماً تنتصر فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتقف دول العالم إلى
جانبها، التي تعاني من الصلف الأمريكي وتشكو من سياستها العنصرية، لأنها تعلم أن
فلسطين على حق، وأنها تواجه عدواً شرساً وتعاني من احتلالٍ مريرٍ، وشعبها مظلومٌ
مضطهد، يعاني من الاحتلال ويقاسي من ممارساته، ومن حقه أن يكون له كبقية شعوب
العالم دولته المستقلة، والقدس عاصمتها التاريخية.
تباً لترامب على شنيعِ جرمِه وشكراً له على جميلِ صنعِه
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
هل يشكرُ أحدٌ عدوَه ويعترفُ له بالفضل والعرفان، ويدين له بالتقدير والامتنان، أم تشكر الضحيةُ جلادَها وأصحابُ الحق مغتصبيه وملاكُ الأرض محتليها، أم يشكر المظلومون ظالمهم الذي يتآمر عليهم ويعمل ضدهم، ويعفو أهلُ القتيلِ عن قاتلهم، ويسامحُ أصحابُ الحق ناهبيه وسارقيه منهم.
هذا لعمري أمرٌ عجيبٌ وفعلٌ غريبٌ ليس له في الزمان مثيلٌ، لا يقوم به عاقلٌ، ولا يلجأ إليه إلا غِرٌ جاهلٌ أو سفيهٌ أحمقُ ، أو أن يكون فاعله قد استمرأ الذل ورضي بالهوان، واستعذب الاستعباد واستعصى على الرفض والعناد، وأبى المقاومة والجهاد، فرضي أن يكون تبعاً أو أن يعيش عبداً، وقَبِلَ أن يستحسن لعدوه القبيح، ويرضى منه بالبشع الشنيع، ويصفق له ابتهاجاً صدقاً أو نفاقاً إذا قال أو فعل، ولو كان في قوله فاحشاً أو في فعله ظالماً، أو كان في سلوكه سفيهاً وفي عقله مريضاً.
لكن الشعب الفلسطيني العزيزُ القويُ، الشريفُ الأبيُ، الشجاعُ المقدامُ، الجريءُ الهمامُ، المنتمي إلى العروبة والإسلام، والمعتز بقطز وصلاح الدين والقسام، الذي سلك طريق المقاومة وخبر مسار القوة، وعرف معنى العزة وعاش في ظلال الكرامة، واستعصم بكبرياء المقاومة ونال شرف القتال، وتمسك بالانتصار وأبى الذل والصغارَ، وأصر أن يحيى حياة الأبطال وأن يعيش عيش الكبار، ولم يعط طيلة سنوات نضاله الطويلة الدنية في حقه ووطنه، وبقي صامداً حتى في سجنه ومعتقله، وثابتاً رغم ضعفه وحصاره.
هذا الشعب العظيم قد شكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي استعداهم واعتدى على حقوقهم ومستقبلهم، وتطاول على حرماتهم ومقدساتهم، وتآمر مع عدوهم واتفق عليهم معه، ودعمه وسانده، وأيده وناصره، وسمى القدس عاصمته، ونقل إليها سفارته، وهو يعلم أنه بهذا الفعل إنما يعتدي على الشعب الفلسطيني كله، ويتطاول عليه وعلى حقوقه، ويمس قيمه ومبادئه وثوابته، ويرتكب بقراره الأهوج جريمةً جديدةً في حق الشعب الفلسطيني تضاف إلى سلسلة جرائمهم، وكأنه بلفورٌ مشؤومٌ آخرٌ، وكتابٌ أسودٌ جديدٌ.
بالتأكيد فإن الشعب الفلسطيني لم يشكره على جريمته، ولم يحمده على سوء فعلته، بل دانه واستنكر قراره، ووصفه بأبشع الصفات ونعته بأرذل النعوت، لكنه شكره إذ ميَّزَ بعجرفته وسفاهته وكبريائه وصفاقته بين الغث والسمين وفرز القمح عن الزوان، وغربل العالم كله بين صديقٍ وعدوٍ، وصادقٍ وكاذب، ووفيٍ ومنافق، وفضح أنظمةً ادعت وقوفها مع الشعب الفلسطيني ونصرتها لقضيته، وكشف زيف بلدانٍ تآمرت معه ونسقت وإياه، وكانت تعلم بفعلته يقيناً وطمأنته عليها لئلا يحاف من عواقبها، وضمنت له ضبط الشارع وردع المواطنين، ومنع التظاهر ووضع حدٍ للمسيرات والاحتجاجات المناهضة لسياسته والمعارضة لقراره.
يشكر الفلسطينيون ترامب على حمقه وجنونه لأنه كشف عن حقيقة مواقفه وأصل سياسته، وأسفر عن نواياه الرافضة منح الفلسطينيين حقوقهم، وتمكينهم في بلادهم وعلى أرضهم، وانقلابه على مسار التسوية وتراجعه عن حل الدولتين، وتخليه عن دور الوساطة والرعاية، إذ لم يعد بقراره وسيطاً نزيهاً وحكماً عدلاً بين الخصوم والأطراف، وبذا حكم على نفسه بالانحياز وعدم الأهلية، وأخرج نفسه من معادلة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وأخلى الطريق لقوى عظمى أخرى لتلعب أدواراً أفضل وأصدق، وأكثر نزاهةً وأحرص عدلاً.
ويشكر كثيرٌ من الفلسطينيين ترامب على قراره لأنه نعى إلى العالم كله العملية السلم وأعلن موتها، ومشى قبل الجميع في جنازتها قبل الإعلان رسمياً عن دفنها وإهالة التراب عليها، فأضعف بذلك فريقها وفض المؤيدين من حولها، وجعل من الصعب استئنافها أو بعث الحياة فيها من جديد، وبذا لم يعد هناك ثمة فرصة لنجاح عملية التسوية، كما لم يبق مؤيدون لها أو مؤمنون بها، وبهذا أحيا قرارُ ترامب الخائبُ الخيارَ العسكري، وأعاد إليه الحياة من جديد وجعل الرهان عليه ناجحاً، الأمر الذي من شأنه أن يعزز المقاومة وأن يعلي من قيمتها، ويزيد من عدد المؤيدين لها والمتمسكين بها.
ويشكرونه أنه عجل في عزل بلاده وإقصاء إدارته وتهميش دورها، فقد تسبب ترامب بقراره في عزل الولايات المتحدة الأمريكية وشل قدراتها الدبلوماسية والسياسية، وتخلي العديد من دول العالم عنها بما فيها دول الحلفاء الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية، والمتعاونة معها في مشاريع الحرب والسلام، التي عارضت قراره، ودعته إلى التراجع عنه وعدم تنفيذه، وكما أظهر مشروع قرار مجلس الأمن الدولي وقوف الولايات المتحدة الأمريكية وحيدة أمام أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر، فإن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أهان الإدارة الأمريكية، وحشرها سياسياً في زاويةٍ ضيقةٍ مع سبعة دولٍ مجهريةٍ نكرة لا يعرفها أحد، وليس لها أي أدوار دولية أو إقليمية.
استطاع ترامب بكلماته وخطاباته المباشرة أو على لسان مساعديه ومندوبيه، أن يستفز دول العالم وأن يهينها، وأن يساومها ويضغط عليها، إذ هدد الدول الفقيرة وتوعد الدول الضعيفة، وأعلن الحرب على الأمم المتحدة وعلى المؤسسات الدولية التابعة لها، فأظهر عدوانية بلاده وعدم أخلاقية سياستها، إذ توعد المعارضين لقراره بعقوباتٍ قاسية وردودٍ موجعة، ووعد المؤيدين لقراره أو المتغيبين عن الجلسة والممتنعين عن التصويت بحوافز ومكافئات، وبهباتٍ ومساعداتٍ.
لهذا كله وغيره يشكر الفلسطينيون ترامب على غبائه، ويقدرونه على وضوحه وصراحته، ويرون أنه ساعدهم على إعادة الثقة بأنفسهم، والاعتبار إلى قضيتهم، واستعادة الوحدة بينهم، ولعله ما أراد هذه النتيجة وما كان يتمناها وقد صدمته مظاهرها وأقلقته تداعياتها، ولو علم أنه سيخدم بقراره العنصري الفلسطينيين وسيضر بالكيان الصهيوني ومعسكره ما أقدم عليه، لكن ما الذي يمنع أن يتسبب غبيٌ في هزيمة بلاده، أو مجنونٌ في خراب أوطانه، أو معتوهٌ في انهيار بنيانه، اللهم إلا الجهل والغباء والعناد الذي دفعه لارتكاب هذه الحماقة وخوض غمار هذه المواجهة.
No hay comentarios:
Publicar un comentario